موسيقى

(قصة من وحي المأساة)
تحت الأقدام
انسلت بعد أذان الفجر من فراشها بحذر شديد حتى لا توقظ صغارها. من عادتها أن تعد فطورا ولو فقيرا لأبنائها قبل الخروج وتوصي ابنها البكر ذي الست سنوات بالاعتناء بأختيه الصغيرتين ولكنها اليوم لم تفعل لأنها لا تنوي التأخر كثيرا. وجدت جارتها في انتظارها أمام الباب وامتطيتا بسرعة الدراجة الثلاثية العجلات إلى جانب أخريات. كان السائق يسير بسرعة فائقة رغم الظلام والضباب الخفيف الذي مازال يخيم على المنطقة. لأول مرة في حياتها أحست بأنها في خطر، فلا تفصلها عن الإسفلت إلا صفيحة معدنية رقيقة وبعض سنتمترات، ولأول مرة تجد نفسها في مهب الريح بهذا الشكل.
مساء أمس حدثتها جارتها عن إحدى الجمعيات التي توزع الدقيق والسكر والزيت على المحتاجين وأغرتها بأن ترافقها مع جارات أخريات. ترددت في البداية لأنها لم تتعود على أخذ الإعانات من الغرباء، فمنذ أن توفي زوجها في حادت سقوط "الضالة" بأحد أوراش البناء منذ سنتين كانت تكتفي بمساعدة أخيها وبما تحصل عليه مقابل عملها في البيوت الموسرة؛ ولكن جارتها شجعتها على هذه الخطوة، وعندما تذرعت بأنها لا تملك ثمن الركوب أخبرتها جارتها بأنهن اتفقن مع السائق بأن يأخذ قنينة الزيت مقابل نقلهن وبأنها لن تخسر شيئا، فالكل رابح في هذه العملية، حتى أصحاب الجمعية فإنهم مكلفون بتوزيع ما حصلوا عليه من جهات أخرى ولهم كذلك نصيب. كانت تتوقع أن تحصل على المساعدة قبل طلوع الشمس والعودة لأبنائها سالمة غانمة ولا عين من عيون أهلها رأت ولا أذن سمعت. ولكنها عندما وصلت لمكان التوزيع فوجئت بأعداد كبيرة من البشر يتدافعون كأنهم في يوم الحشر. فقدت منذ الدقائق الأولى كل جاراتها وسط الأمواج البشرية. ووجدت نفسها محاصرة تتحرك مع الجموع في كل الاتجاهات كجسم واحد. و رغم الزحام الشديد لاحظت أن أحدهم يصور الناس من أعلى فحاولت تثبيت غطاء الرأس، فهي تكره أن يعلم أهلها بأنها كانت هناك، فما بالك أن تلتقط لها صورة في هذا الموقف اللعين. ضاع منها غطاء الرأس ولما انحنت لالتقاطه وجدت في ذلك صعوبة كبيرة وسقطت فداست الأقدام جسدها النحيل بدون رحمة. صرخت بكل قواها وحاولت النهوض ولكن أعداد المتساقطات فوقها تزايدت فأيقنت بالهلاك واستسلمت لمصيرها البئيس.
عندما كانت بين الوعي واللاوعي تراءت لها صورة ابنها البكر وهي تحت الأقدام فتمتمت بما يشبه الشعر: عذرا بني إذا طلع النهار وما رجعت..كم هي قاسية هذه الأقدام التي تدوسني حتى ولو صرخت..فلو كان في بيتنا طعام ما كنت خرجت.. ولو أنصفتنا هذه الأيام ما جعتم ولا جعت..اصبر بني ولا تدرف الدموع..وكفكف دموع الصغيرتين فلن أقوم وفوقي هذه الجموع.. آه بني، ضاقت النفس بين الجنبين..وتهشمت من داخلي روحا و ضلوعا وغاب الإحساس بالرجلين..أنفاسي صاعدة تأبى الرجوع..وأطيافكم تلوح أمام العينين.. صغاري،قد غاب عني الضياء..أنا ذاهبة وأبوكم في الانتظار..أراه هناك في العلياء..وليته كان في الدار..سندعو معا عند رب السماء لهذا الوطن، ليس لأي اعتبار..سندعو له بالرخاء فقط لأنكم فيه يا صغاري..وأسلمت الروح للبارئ.
الهرموزي

ليست هناك تعليقات: