Mohamed Jlaidi
******
******
قصة قصيرة :
عندليبٌ (كهلٌ) صغيرُ السن !
قلت ل(بّا) احمد:
-لقد سحرني هذا الطفل بصوته العذب، أخاله عندليباً يصدح في الغاب !
(…)
كنا في مأتم .وكنا معا فيه، لنساهم بحضورنا في الترحم على صديق مشترك. جمعتنا به علاقة العٓـرَق . فودَّعَنا بلا وداع . في غفلة منا راح . كان قد قرر بعد أن اشتدت به وطأة المرض ، أن يقضي ما بقي له من العمر ، بجانب أسرته الصغيرة . وما بقي من العمر ، كان قصيراً . ولم يعد للسفر من القنيطرة إلى الأسرة بالبيضاء ، عند نهاية كل أسبوع من العمل ، ضرورة . بل لم يعد للعمل ضرورة ، ما دام التقاعد قد تواطأ مع المرض . والمرض من النوع الذي لا ينفع معه علاج . وصلنا خبر رحيله من هناك وعلى حين غرة ، وبعد أن ووري الثرى . لذلك لم نتمكن من توديعه الوداع الأخير، كما يليق بصداقة الرجال . حزِنّـا عليه حزنين : حزن الفراق ولوعاته ، وحزن تخلفنا عن لحيظة الوداع الأخير وحسراته !
وعن هذا الفراق ، وبهذا الشكل ، كان (بّا ) احمد يردد:
-ما أفظع أن نغادر بلا وداع أخير !
وبعد كل ترديد ، يصدر تنهيدة من الأعماق ، ثم ينخرط في بكاء طفلي سخيِّ الدموع ! مما يحملني على أخذه من المعمل ، والهروب به إلى زرقة البحر . لعل وعسى يستبدل حالا بحال !
(…)
بعد أسبوعين من هذا الوداع بلا وداع ، أقامت زوجة المرحوم حفلا دينيا بمنزل أخته ، هُنا بالقنيطرة، التي ربطه بها عرق العمل ، حتى يتسنى لأصدقائه العيش معه لحظات وداع وترحم ! وإن كانت اللحظات تلك ، منزاحة عن وقتها ! وكانت الفكرة من المرحوم الراحل ، قبل أن يرحل . فأخذت الأسرة الفكرة كوصية ! ونفذتها طبقا لرغبته ، وكما شاء لها أن تكون !
(…)
ولأن منزل الأخت لا يتسع للحضور من الأقارب والجيران والأصدقاء ، أقامت للمأتم خيمة . واستدعت فرقة من قرّاء القرآن . وهؤلاء ينتظمون في فرق . ويمتهنون القراءة بمقابل . والفرقة التي أطرت هذا المأتم ، تتميز بوجود طفل ، يرافق أباه !
(…)
كررتُ قولي ل(بّا ) احمد :
-لقد سحرني هذا الطفل بصوته العذب، أخاله عندليباً يصدح في الغاب !
لكن (بّا ) احمد لم يتفاعل مع قولي،رغم تكراره !
سألته:
-لماذا لا تتكلم ؟!
نظر إليّ ساخراً ، ثم حرك شفتيه ، وقال بهمس :
-سأجيب عن سؤالك بسؤال ، يا ابن المدارس .
قلت هامسا :
-وما سؤالك آ الشيبة العاصية ؟
قال مبتسما وعينه اليسرى تغمز :
-لماذا يصيبك العمى حين تبصر جمالا ولا ترى عمقه القبيح ؟
قلت مستغربا:
-وأين وجه القبح في المشهد ؟!
-سأجيب أيضا عن سؤالك بسؤال ..
قاطعته كي يأخذ كلامي بالجد:
-لا أريد سؤالا .
كتم ضحكه في وجهي وقلب شفتيه، ثم قال :
-وماذا تريد ؟
-وَضح لي وجه القبح الذي رأيتَـه ولم أره.
ضحك وهو يحاول ألا يكون ضحكه عاليا ، ثم قال:
-إذا لم تجب عن سؤالي ، لن أوضح .
ثم أضاف بسؤال آخر:
-هل تعرف لماذا ؟
قلت وأنا أحافظ على جدية الكلام ، وفي الآن نفسه أباعد الغيظ ، كي لا أمنحه فرصة التمكن مني ، كما هي عادته ، خاصة وأن اللحظة لا تتناسب وسياق المزاح :
-لا أعرف آ الشيبة العاصية .
ضحك بصوت خافت ، وهو يحجب وجهه بيديه :
-لأنك إبن مدارس .
وبعد أن استرجع نفسه واستقام تنفسه ، قال :
-بعد أن تمكنتُ منك، قل لي ما الذي أعجبك في الطفل ؟
قلت:
-صوتُـه.
قال :
-وماذا يفعل هذا الطفل في هذه اللحظة ؟
أجبتُ:
-يقرأ القرآن .
سأل:
-ومع من أتى إلى هنا ؟
أجبت:
-مع والده .
سأل:
-ولماذا لم يأتِ والده مع فرقته ليقرأ وينال حقه من الأجر،ويترك الطفل لحاله ، مع طفولته ؟
قلت:
-ربما ليأخذ حقين من الأجر.
قال:
-هل لاحظتَ بأن الطفل لا يكمل الجمل؟
قلت مضيفا:
-نعم ، ولاحظت أيضا أنه يغالب النعاس.
قال بحسم ساخر:
-مكان الطفل في هذه اللحظة فراشه . ومكان الأب في الرباط.
سألته لأفهم :
-الرباط العاصمة ؟ !
قال وهو يضحك على فهمي الذي غالباً ما يعتبره محدوداً عن قلة التجربة في الحياة :
-لا ، ( رباط ) البهائم ، الذي تسميه يا ابن المدارس ب ( المربِط ) !
(…)
-ومع حكم (بّا ) احمد وتعليله ، انقلبتْ في مداركي صورةُ الطفل الذي سحرني بصوته العذب، وخلته قبل قليل ، عندليباً يصدح في الغاب ! إلى عندليبٍ نخره وهن الكهولة ، يصدح في غابة الكبار !! رغم أنه صغير السن !!! ورغماً عنه أيضاً(…)
-لقد سحرني هذا الطفل بصوته العذب، أخاله عندليباً يصدح في الغاب !
(…)
كنا في مأتم .وكنا معا فيه، لنساهم بحضورنا في الترحم على صديق مشترك. جمعتنا به علاقة العٓـرَق . فودَّعَنا بلا وداع . في غفلة منا راح . كان قد قرر بعد أن اشتدت به وطأة المرض ، أن يقضي ما بقي له من العمر ، بجانب أسرته الصغيرة . وما بقي من العمر ، كان قصيراً . ولم يعد للسفر من القنيطرة إلى الأسرة بالبيضاء ، عند نهاية كل أسبوع من العمل ، ضرورة . بل لم يعد للعمل ضرورة ، ما دام التقاعد قد تواطأ مع المرض . والمرض من النوع الذي لا ينفع معه علاج . وصلنا خبر رحيله من هناك وعلى حين غرة ، وبعد أن ووري الثرى . لذلك لم نتمكن من توديعه الوداع الأخير، كما يليق بصداقة الرجال . حزِنّـا عليه حزنين : حزن الفراق ولوعاته ، وحزن تخلفنا عن لحيظة الوداع الأخير وحسراته !
وعن هذا الفراق ، وبهذا الشكل ، كان (بّا ) احمد يردد:
-ما أفظع أن نغادر بلا وداع أخير !
وبعد كل ترديد ، يصدر تنهيدة من الأعماق ، ثم ينخرط في بكاء طفلي سخيِّ الدموع ! مما يحملني على أخذه من المعمل ، والهروب به إلى زرقة البحر . لعل وعسى يستبدل حالا بحال !
(…)
بعد أسبوعين من هذا الوداع بلا وداع ، أقامت زوجة المرحوم حفلا دينيا بمنزل أخته ، هُنا بالقنيطرة، التي ربطه بها عرق العمل ، حتى يتسنى لأصدقائه العيش معه لحظات وداع وترحم ! وإن كانت اللحظات تلك ، منزاحة عن وقتها ! وكانت الفكرة من المرحوم الراحل ، قبل أن يرحل . فأخذت الأسرة الفكرة كوصية ! ونفذتها طبقا لرغبته ، وكما شاء لها أن تكون !
(…)
ولأن منزل الأخت لا يتسع للحضور من الأقارب والجيران والأصدقاء ، أقامت للمأتم خيمة . واستدعت فرقة من قرّاء القرآن . وهؤلاء ينتظمون في فرق . ويمتهنون القراءة بمقابل . والفرقة التي أطرت هذا المأتم ، تتميز بوجود طفل ، يرافق أباه !
(…)
كررتُ قولي ل(بّا ) احمد :
-لقد سحرني هذا الطفل بصوته العذب، أخاله عندليباً يصدح في الغاب !
لكن (بّا ) احمد لم يتفاعل مع قولي،رغم تكراره !
سألته:
-لماذا لا تتكلم ؟!
نظر إليّ ساخراً ، ثم حرك شفتيه ، وقال بهمس :
-سأجيب عن سؤالك بسؤال ، يا ابن المدارس .
قلت هامسا :
-وما سؤالك آ الشيبة العاصية ؟
قال مبتسما وعينه اليسرى تغمز :
-لماذا يصيبك العمى حين تبصر جمالا ولا ترى عمقه القبيح ؟
قلت مستغربا:
-وأين وجه القبح في المشهد ؟!
-سأجيب أيضا عن سؤالك بسؤال ..
قاطعته كي يأخذ كلامي بالجد:
-لا أريد سؤالا .
كتم ضحكه في وجهي وقلب شفتيه، ثم قال :
-وماذا تريد ؟
-وَضح لي وجه القبح الذي رأيتَـه ولم أره.
ضحك وهو يحاول ألا يكون ضحكه عاليا ، ثم قال:
-إذا لم تجب عن سؤالي ، لن أوضح .
ثم أضاف بسؤال آخر:
-هل تعرف لماذا ؟
قلت وأنا أحافظ على جدية الكلام ، وفي الآن نفسه أباعد الغيظ ، كي لا أمنحه فرصة التمكن مني ، كما هي عادته ، خاصة وأن اللحظة لا تتناسب وسياق المزاح :
-لا أعرف آ الشيبة العاصية .
ضحك بصوت خافت ، وهو يحجب وجهه بيديه :
-لأنك إبن مدارس .
وبعد أن استرجع نفسه واستقام تنفسه ، قال :
-بعد أن تمكنتُ منك، قل لي ما الذي أعجبك في الطفل ؟
قلت:
-صوتُـه.
قال :
-وماذا يفعل هذا الطفل في هذه اللحظة ؟
أجبتُ:
-يقرأ القرآن .
سأل:
-ومع من أتى إلى هنا ؟
أجبت:
-مع والده .
سأل:
-ولماذا لم يأتِ والده مع فرقته ليقرأ وينال حقه من الأجر،ويترك الطفل لحاله ، مع طفولته ؟
قلت:
-ربما ليأخذ حقين من الأجر.
قال:
-هل لاحظتَ بأن الطفل لا يكمل الجمل؟
قلت مضيفا:
-نعم ، ولاحظت أيضا أنه يغالب النعاس.
قال بحسم ساخر:
-مكان الطفل في هذه اللحظة فراشه . ومكان الأب في الرباط.
سألته لأفهم :
-الرباط العاصمة ؟ !
قال وهو يضحك على فهمي الذي غالباً ما يعتبره محدوداً عن قلة التجربة في الحياة :
-لا ، ( رباط ) البهائم ، الذي تسميه يا ابن المدارس ب ( المربِط ) !
(…)
-ومع حكم (بّا ) احمد وتعليله ، انقلبتْ في مداركي صورةُ الطفل الذي سحرني بصوته العذب، وخلته قبل قليل ، عندليباً يصدح في الغاب ! إلى عندليبٍ نخره وهن الكهولة ، يصدح في غابة الكبار !! رغم أنه صغير السن !!! ورغماً عنه أيضاً(…)
محمد الجلايدي - القنيطرة - المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق