موسيقى

خــلــخــال زهــيــرو
قصـة قصيـرة
محمد الطايـع
فجأة استيقظ فيك الجرح النائم ، حين سمعت بالصدفة على إحدى الموجات الإذاعية المرحوم التهامي الهاروشي ، يغني " خلخال زهيرو " ويحكي تفاصيل غرامياته ويعدد أسماء أحياء فاس القديم ، حاصرك الحنين الجارف إلى الماضي فأعاق حركتك و منعك من المشي وأتلف وجهتك ، تحاملت على نفسك لتصل إلى الشاطيء ثم جلست على الرمل وحيدا شارد الذهن ، لاتدري إلى أين المسير .
تذكرت سميرة ففاضت عيناك بدموع شعرت بها تبلل خديك مثل يتيم ، كهل ، لم ينتبه إلى رحيل أبويه منذ زمان بعيد .
كنت قد سمعتها تغني بلكنتها الفاسية الشهية تشتكي من هجر حبيبها القاسي ، وصويحباتها مصغيات لشدوها الساحر وهي تتوسطهن في باحة البيت ، من حولهن شجيرات الورد تهزها نسمات الأصيل ، أسكرك غناؤها فلم تبرح الزقاق حتى استجبت لرغبتك في التلصص عليهن ، أو بالأحرى عليها ، تدفعك للتملي في وجهها الصبوح رغبة مجنونة وجامحة .
لطالما ثرثرت حول سيرتها أخواتك فشبهنها بهلين طروادة ، سمراء عسلية العينين خدودها بالغة الحمرة وإن لم يكن بها خفر ولا تعب ولا نثرت عليهما لونا ليزدادا حمرة ، جمال الفاسيات في بياضهن وجمال سميرة في سمرتها الممزوجة بحمرة الشفق كأنها فاكهة قذفت بذرتها إلى الأرض حمم بركانية ، فشكلت منها عودا أهيف ، وقدا موفور البهاء ينفي انتسابها إلى بنات حواء ، فيزعم قلبك أنها من نسل الجنيات الأسطوريات اللواتي روعن صباك ، ثم بعثرن اتزانك حين بلغت الحلم فبت ترجو أن تتملكك ، وتسري في عروقك ولن يشفيك منها دواء ولا دعاء ، لأنك لن تخلص النية أبدا ولن تقبل فيها دونها بديلا .
همت على وجهك في دروب فاس العتيقة حاضنة السحر والجمال ، و "عبد الوهاب الدكالي" ، ينادي بلغوه سلامي ، من على أبواب حوانيت التمر والحناء والجلاليب والقفاطين المشدودة بأحزمة الذهب ، في أسواق فاضت أنعمها وفاحت عطورها ، وتسربلت أجسام فتياتها في أثوابهن الشفافة . كأن العالم نسي هذه البقعة من الأرض ، وأضافها للجنة دون بعث ولا قيامة .
والها قفزت من سطح لآخر حتى تطل عليهن وكن يتوسلنها أن تشدو بإحدى روائع الملحون ، بينما هي تضحك ، وترسل ناحيتك عينان حجلاوتان ، بريقهما يتوعد قلبك بالسهر إلى حد الخبل ، وبخصلات شعرها الأسود المنساب في سلام السعف التي تتخللها أشعة شمس الشواطيء الإستوائية ، و قد تدلت منه على جبينها قصة حريرية تسلب لبك ، وحول شفتيها غمازتي صبية لاينبغي لها أن تكبر مهما طال بها الأمد .
لكأنها رأتك ، وهي ترسل بين ضحكاتهن موالا أندلسيا يرغم القلوب على الإصغاء فتوزع بذل الدم عشقا وجنون ، ترى الوجد مثل الكرى أو دوخة الطلا يتبخثر فوق جفونهن ، السيدات والأوانس النواعم المدللات ، الوالهات بسبب وبغير سبب ، تراهن فيخيل إليك أن الواحدة منهن إن غاب حبيبها تولهت في ماحولها ، فمنحت لفناجين القهوة قبلا وللستائر ملمس الشبق وللوسائد عناق العاشقات الساكنات أسطوري الدواوين ،
ألبي ، قالت ، فلطالما كان القلب على منطقها ألبا ، وكان القمر أمرا ، وللتيه مرايا وحكايا ونافورات ماء هاذرات بالحلم الموشوم في كل ماهو للصحو أصلا فكأنه عالم نزع الحجاب بين خيالاته وحقيقته ، والواقع إذاك ضرب كراهة لايرغب فيه إلا اليساريون ، توجست الفتيات خوفا عليها مما اشتكت منه ، فضحكت مقهقهة ، وقد كشفت أمرك ، ولست تخشى شيئا في روضة الحسان يرددن لاهيات مابلغهن إياه المذياع من جديد الطرب يتلقفنه بنشوة ومجون حنون .
مرت عقود و أعلنت مطربتك المفضلة اعتزالها ، وتجمع الناس في المقهى حول شاشتها البلازما يتفرجون على طبيبة تطمئن الرجال وتخبرهم عن معدل مقاييس العضو الذكري بجدية كأنها تتحدث عن سور الصين العظيم ثم تعدد منافع العادة السرية فتتبسم راضيا وأنت ترى حقبة كاملة من الخرافات تغرق مثل سفينة في عمق المحيط .
نعم يازمن الشياطين لم يتبقى ثمة مخبوء إلا وجرجر رغما عنه ومرغ وجهه في تراب العلن . وأجبر على الإعتراف بأسرار صمته اللعين .
تحاول أن تطرد الماضي من رأسك عبثا لكنك لم تنسى أبدا أن وصلكما لم يستمر إلا قليلا ثم زفت مالكة القلب لغيرك ، بعد أن لامك فيها الجميع ، وكانت تنحل بين يديك مثل غيمة من عطر وزهور ، نقرتك على قفاك بسبابتها ، فاهتز جسدك مثارا ، فناولتك كفا ناعما ، وطلبت منك أن تكتب لها شعرا ، فلم تدري ما تهمتك إلا بعد سنين ، كسرت قنينات الخمر على جدران المنازل وأنت تتربص بحليلها كي تقتله لولا سواعد فتية الحي من أبناء الأهل والجيران ، جميعهم تأسفوا لحالك هم و "فيروز" " عبد الحليم حافظ " "سميرة سعيد" ، "برايان أدامز" "وأوديت" ،
مع الوقت تلبس حياتك شكل الأصيل المنتحي جانبا قصيا من مدينة الحلم والعلم ، عم السكون قليلا معتمرا هدأة العشايا ثم تحول الغناء الأصيل فوضى وجنون .
يصرخ الشباب من حولك فيرغمونك على الانتباه للزمن الحاضر وهم يرقصون على أنغام الراب ويتباهون بالكلام الساقط ، فيعجبك غناؤهم المتحرر من رومانسيات الأمس البائس الحزين ، فتفكر أنه من الجيد أن تتاح لك الفرصة كي تسب خصمك في القصيدة دون حرج ولا تخوف من سياط المثاليين ، فياحبذا ولو أمكن أن تفرغ ست رصاصات في جبهة الزمن الجميل فتستريح ، تحمل خشبتك على ضهرك تأسيا بدعبل الخزاعي وتطوف البلاد سنين تسكع تبحث عمن يصلبك عليها ولاتجده ، تكتفي بوضع يديك في جيبي معطفك وترفع ياقته لتخفي قفاك وتدني القبعة على جبهتك ، فلا يتمكن من رؤية عينيك الفضوليون ، تلصق السماعتين بأذنيك فيبدو لك المشهد كله مقطعا حيا يتحرك على إيقاع معلقات "إيمينيم" و "توباك شاكور" ، تحمل عزلتك معك و ترتاح لحكم الزمن الذي أتى على مجد وسطوة أعدائك الأقدمين . لو قدر للزمان أن يعود بك إلى الوراء لن تسامحهم هذا أكيد ، فليست كل الإناث بمثل جمالها وصفاء روحها ، جوهرتك المفقودة ، التي لم تنظر وجهها منذ زمن بعيد ، كما أنك لاتملك لها سوى صورة في الذاكرة تحضر ثم تغيب .
يضج الشارع بأصوات الإضافيين وقد أحرز نجم الكرة هدفا ، ثم تضاحكوا وهم يتلقون على هواتفهم صور القطط والقردة والحمير، وفجأة يحتقن الدم في وجوههم وهم يشاهدون رجلا يذبح آخر ذبح الشاة فلا يتمكنون من النوم ليلا إلا بعدما يزورون المواقع التي سببت كسادا لمن كان جل زبنائهن من الكادحين .
تمسح أدمعك الساخنة بباطن كفيك حين يشد انتباهك تسابق أطفال أمامك على الشاطيء ، يضحكون ويتدافعون ويسقطون مرحا على الرمل وليس لديهم أي فكرة عما ينتظرهم على هذا الكوكب القاسي والجميل .
تفرجك عليهم وعلى شغبهم وصياحهم وضحكاتهم البريئة ، ينتزع منك ابتامستك رغما عن حزنك ، فتهب من مكانك واقفا وتقصد الشوارع الطنجوية المكتظة بالسيارات والعابرين ،
تغوص وسط الزحمة لاشك ولا يقين .

ليست هناك تعليقات: