موسيقى

محمد الطايع
*****

قراءة نقدية على هامش نص :
/ يفوح بعبق الهوية ومجد التاريخ وروعة العمران الأصيل .. والخطاب السردي الواعي ببعدي : الامتاع الفني والدهاء الإحترافي ... /
(عتبة )
للكاتبة المبدعة .. سميرة السباعي ...
بقلم .. محمد الطايع
1- مقدمة :
اولا لن افرد مدخلا خاصا باسلوب النص ولغته . فانا اقرا لسميرة السباعي المتمكنة من لغتها وأساليبها .. والنص في حد ذاته يشهد بهذا . لكنني طبعا سوف أدمج حديثي عن تلك التقنيات المتبعة من خلال تتبع مميزات النص بشكل عام لدوافع وضرورات فنية سوف أحاول ان أبرزها خلال نص القراءة والتحليل ..
2 - "عتبة" نص وصفي بامتياز :
بداية احب ان أثير الانتباه . الى ماتميز به النص من قدرة هائلة على الوصف . وصف البيت العتيق ...
وأضرب مثلا أننا .. عندما نتحدث عن الفرعون . المستلقي في تابوته على شكل مومياء ... نعلم انه ليس سوى قطعة صغيرة من عدة اشكال ومظاهر عجيبة يضمها المكان المسمى بالهرم ..
الفلاح ايضا هو ذلك الشخص الذي يرمز للقرية . ويكفي ان نردد اسمه لنتذكر الحقل والبستان والمنزل الريفي . ادوات الفلاحة وقطعان الماشية ..
و الممثل !! هو ذلك الذي ياخذنا الى عالم الاضواء . الخشبة . الجمهور . السيناريو او السينوغرافيا . الكواليس . الأصباغ الباروكات . المصابيح الوهاجة مكبرات الصوت . والعديد من المصطلحات الفنية المتداولة في تلك الأمكنة ..
لذلك انقسم كتاب القصة القصيرة . كلما حاولوا الكتابة عن بعض مراحل الطفولة . وخاصة عند حديثهم عن الأشخاص المؤثرين في تشكيل وعيهم اللاحق .. الى أقسام ولسوف اعطي ( الجدة ) مثلا .. حتى لااذهب بعيدا عن النص الذي انا بصدد تحليله تقنيا ..
* قسم سيهتم بوصف الجدة . شكلها . لغتها . علاقتها بما ومن حولها . وعلاقتها بالسارد ..
** قسم سيهتم بعلاقته مع الجدة . فيكون احد اثنين :
- الاول يحكي عن نفسه باسهاب . ثم يسقط أثر الحكي على علاقته بها ..
- الثاني يحكي عن الجدة . بينما يكتفي عند الحديث عن نفسه وعن علاقته بها بشذرات فقط ..
*** قسم يغيب نفسه تماما . ويكتفي بسرد حياة الجدة . بالشكل الفني الذي يراه موائما ..
**** قسم يركز على الفضاء . الذي عاشت فيه الجدة . وهنا أعتبر الكاتبة سميرة السباعي تنتمي لهذه الفئة التي تعطي اهمية للفضاء الذي تطل عليه من نافذة زمانية محددة . هي نقطة تقاطع خطوط لانهائية ... اذكر منها :
1 - الزمن الذي تتقاطع خلاله حياة السارد مع حياة الجدة .. ( وكاستنتاج .. هذا ماتوفر لنص عتبة ) ..
2 - المكان الذي يشبه الوعاء . الذي يضم كل تلك التقاطعات . ويعتبر مسرحا لها .. استنتاج ثاني لصالح النص موضوع التحليل ..
3 - الحالة النفسية للسارد على مستويين :
* - المستوى القديم . وهو نتيجة تفاعل حواس طفل مع مايراه ويسمعه ويصادفه .. احالة هنا ايضا على النص "عتبة" .. وانا إذ اشرت هنا لقصة السباعي . فلأن العديد من كتاب القصة تحدثوا عن الماضي من رؤية جديدة وموضوعية بحثة انهجت جلها اساليب السخرية او النقد الذاتي ..
** - المستوى الحديث والذي يتشكل من خلال نقطة الوعي التي انطلق منها السارد في الوقت الحاضر .. وهذه خاصية تتوفر لجميع القصص دون استثناء ..
4 - عملية الفلاش باك والاسترجاع وهي في حد ذاتها رحلة ذهنية في قلب الزمن .. وهنا تكمن اشد المعضلات والرهانات الاصعب التي يقدم الكاتب على خوضها ..
كيف له ان يعزل قناعاته الجديدة . عن نظرته القديمة للامور .. ؟!
كيف له ان يتحرى الصدق . وهو يحكي عن إحساسه القديم . الذي يكون في اغلب الاوقات . قد التبس طعمه مع تبذل الاحاسيس وتغليف النظرة الناضجة لها مع الوقت . وكذلك عامل النسخ الذي تقوم به الذاكرة للقناعات السابقة ..
( النسخ هنا اعني به التعديل وليس التكرار .)
حسنا . احب الآن ان اشير الى ان الكاتب الموهوب لايفكر حتما في كل هذا قبل الشروع في الكتابة . لانه لابد سيسقط في صراع فكري من نوع اخر غير محمود العواقب . لكن من هنا يستطيع القاريء الناقد ان يكتشف آليات اشتغال الكاتب . فيعلم ان حامل هم الفعل السردي . هو مثقف كبير . تلقى كما هائلا من التقنيات والمعارف . التي تعلمها عن طريق قراءته المكثفة بتدبر وبامعان وحب لنصوص اخرى سابقة . هذا ولاننسى ان نشير الى دربته وتجربته الفنية الخاصة مع فن الكتابة .. وهنا سوف أوجز قليلا واحاول الاشارة إلى مكمن هذه الجودة .. حتى لايكون كلامي مجرد مدح مجاني للكاتبة ..
مع استهلال النص نستشعر تناقضا واضحا بخصوص أحاسيس الطفلة :
ففي البداية تقول الكاتبة عن الطفلة / تستطيب لحظة إعلان والدتها عن زيارة الجدة/
لكن تعود وتقول بعد قليل /لم يكن يستهويها لقاء الجدة /
هذا ما أسميه قوة الاقناع .. التي يحملها معه النص . كيف ذلك ؟ ..
من المهم بما كان أنه وقبل ان نعلن ان كاتبا ما اخطأ . في أمر ما . نقبل على القراءة مع تواطىء المعجب . فنقدم عربون الثقة . لهذا نعتبر اي كاتب هو جاد في مخاطبتنا . ومن خلال هذه الجدية تتأسس العلاقة بينه وبيننا ..
لذلك لايمكن ان نسلم لإمكانية الخطأ . إلا إن لم نجد تفسيرا بديلا لظاهر المتن السردي . او حين نتعب في الوصول إلى تبرير ولا نعثر عليه . لكننا عندما ننتهي من قراءة نص/ عتبة / سنكتشف بوضوح ما ارادت الكاتبة قوله .. وهو من خلال المببرات الفنية التالية :
- مبرر 1- الطفلة بحكم انها ماتزال صغيرة لم تكن لديها القدرة على التمييز بين ماتحبه وما تكرهه . هنا نرصد تقنية الواقعية ..
- مبرر 2 - رغبة الكاتبة في ان نرافقها خطوة خطوة فننتقل معها من حالة الشك وتضارب المشاعر نحو قيمة وجدانية اعلى هي الثقة واليقين الخالص .. هنا نرصد تقنية المؤانسة السردية بحيث يوفر لنا فعلي الكتابة والقراءة مايشبه الرفقة العجيبة ...
- مبرر 3 - تحفيز القاريء لاكتشاف سبب هذا التناقض .. ولهذه الخطوة مآرب عدة ترومها الكاتبة ..
- اولا ان تختبر وعي القاريء وذكائه ..
- ثانيا ان تترك له فرصة اكتشاف الحقائق بنفسه حتى يشعر بالتفوق ولذة الاكتشاف ..
- ثالثا .. الا تكون قد فرضت عليه رايها فيما حدث ..
رابعا - حتى يعلم القاريء بعد انتهائه من القراءة ان الطفلة كانت اشد ارتباط بالمكان من ارتباطها بالاشخاص المتمثلين في شخص الجدة ..
- مبرر فني اخير - ان الجدة كانت هي صاحبة السلطة المطلقة على البيت . وان زيارة البيت تشترط اولا زيارة الجدة . لكن وبحكم ان الاطفال سيكولوجيا . غير قادرين على التفريق بين مايحبونه وما لايحبونه . فان تلك المرحلة العمرية لاتعدو كونها / عتبة / كما جاء في العنوان لمرحلة النضج . وهذه أيضا تحسب للكاتبة إذ يجوز لنا وإن ظننا انها لاتقصد ذلك أن العنوان يسمي مرحلة الصبا بالعتبة .. وكيف لا والطفولة هي عتبة النضج والكبر والحياة مجتمعة ..
ثم وبعد تجاوز عتبة النص معنى وعنوانا ومكانا .. ستمتزج مشاعر الإعجاب والحب بالظرف عامة .. وتسمو نحو مشاعر تلعق خالصة بشخص الجدة . اذ يتبين في آخر النص ان الجدة هي البيت والبيت هو الجدة .. وان من صفاتهما . الجلال والجمال والصرامة .. وذلك يتضح من خلال تشابه الصفات .. فالجدة وصفت بالصرامة . والبيت قالت عنه الكاتبة وهي تتحدث عن رغبة الطفلة في اللعب  فهي ضيفة عزيزة تدخل البهجة على سكون البيت العتيق و وقاره /
وهكذا نلحظ ان التصاعد الدرامي للاحداث المسترسلة خلال النص . هي عبارة عن توجه اكيد من حالة اللاوعي الى الوعي الكامل ..
وإن النص قد حوى اشارات فنية رائعة تعزز هذا الطرح .. منها قول الكاتبة .. عن سقف البيت :
/...كلما امعنت النظر ترقبت حركة ما...لأنها كانت توقن بعيش كائنات هناك...يطول انتظارها ويتعب عنقها الصغير دون جدوى...فتحاول اقناع نفسها فقط بجمال صنعه و فنية بنائه و تفرده .. /
بين هذه السطور تكمن فعلا روعة القص . لدى كاتبتنا التي تجعل فعلي السرد والخطاب .. متوازيين حتى لايشعر القاريء بالملل . ان هي احالته على الخطاب . او يشعر بالسطحية ان هي اكتفت بسرد مشاعر وخيالات طفلة .
فكما قلت سابقا ... عن التدرج الفني نحو حالة الوعي ..
هاهي ذي واقصد الصبية تتأكد بأنه لاوجود لكائنات خرافية مخيفة . انما الموجود فعلا هو جمال صنع وفنية بناء البيت العتيق .. هذه الجمالية وهذا الفن اللذان تحسرت عليهما .. عند قولها :
/ باب الغرفة : خشبي مزخرف بألوان متناسقة ربما اكتسبت من النظر إليها ذوقها الفني الذي تجاذبته كثير من المغريات ولم تترك له مجالا للاكتمال.../
نكتشف من خلال هذه السطور .. اعلانا واضحا ان ذوقها كان سيكون مكتملا .. لو انها عاشت فترة اطول في ذلك البيت .. وهنا اصبحت الكاتبة شاعرة بامتياز . اذ تمتدح اصالة البيوت العتيقة والتي ترمز الى بهاء العصور السالفة وثرائها الابداعي . وروعة فنها . التي لاتهتم لها للأسف الاجيال الصاعدة . بل ان الكاتبة توجد اعذارا لتفريطها غير العمد .. تجلت في قولها :
/ ذوقها الفني الذي تجاذبته الكثير من المغريات .. / يعني مسخته وازالت عنه اصالة الحكم وبراعته . فاصبح ذوقا سطحيا مائعا . بسبب انجذابه خلف التفاهات التي لاتتوقف عن مهاجمة ثقافتنا الحقة وهي عبارة عن تيارات دخلية . على الهوية الأم .. تنزع عنا عمق العشق وفرادة الرؤية فنغدو مجرد سطحيين ...
هذا بالضبط ماذهبت اليه الكاتبة سميرة السباعي خلال قصتها التي لابد وانها جزء من سيرتها الذاتية وفي النص الكثير من الإشارات التي يمكننا تلمسها لنعلن انه ينتمي اليها جملة وتفصيلا كوصفها الغير مبرر لأمها بالحنونة .. وهذا ما يضعنا امام سؤال يلح علينا .. هل كانت الكاتبة واعية لهذا الوصف وانها تعمدت من خلاله نسج خيط من التواصل العاطفي بينها وبين القاريء والنص وصوت السارد (ة ) الذي يمكن ان يكون ذكرا لولا معرفتنا بجنس الكاتب .. مما يولد نوعا من القناعة الخفية ان النص سيرة ذاتية .. او انها كلمة كتبت سهوا او غفلة او اندماجا . مع نص جعلني وبحكم معرفتي للكاتبة التي سبقت ان اعلنت عن تأثرها بسيرة طه حسين الايام . وكيف كتب السيرة بضمير الغائب (هو ) هذا ولا يمكننا ان نقسو كثيرا على كاتب كل الذي اراده في نهاية المطاف ان يبني بيننا وبينه جسرا من البوح الذي غمست أحرفه في مداد الصدق والحميمية ..
النص في مجمله .. انتصار جميل للاصالة والقيم الخالدة . وبكاء ايضا على ماضاع منها وماتم التفريط فيه ..
من الرائع ان يسخر الكتاب احاديثهم عن تجاربهم الحياتية لخدمة القضايا الكبرى . فلاتكون سيرهم مجرد سير ذاتية بسيطة . ولو امعنا النظر في هذا النص من بدايته حتى نهايته .. لعرفنا بما لاشك فيه ..
لماذا وكيف اكتسبت ( سميرة السباعي ) كل هذه الخبرة وهذه البراعة في الفهم وعمق الرؤية . وتفوق العبارة . والقدرة المشهودة على استيعاب مايكتبه غيرها . وكيف امكنها ان تجمع بين ملكة الفن النثري . سواء كان نصا مكثفا فنيا او اخاطرة .. او قصة .. هذا كله حين يجتمع .. يعطينا . اديبة وناقدة من العيار الثقيل .. نتشرف ان كنا يوما ننتسب اليها بشكل او بآخر ...
ان التقنية السردية التي اتبعتها سميرة السباعي في هذا النص لتشهد لها بالبراعة .. وذاك انها عمدت ومنذ البداية الى تطعيم الاحداث بالمعنى المراد منها . كنوع من التوجيه الذكي والحنون والهاديء للقاريء . وايضا اعتمدت تقنية العلب الموروثة منذ عجائبية ألف ليلة وليلة . وكذا عوالم السحر والمفاجآت التي تحملها مسارح الفرجة .. لكن بشكل متزن هاديء هاهنا بين سطور نص "عتبة" تلك الإضافات اللامتوقعة تسترعي انتباه الاطفال وتثير نشوتهم الفضولية نحو عوالم الدهشة . هي تعرف ان نصا كهذا قرائه هم من فئة الكبار لان لغته غير متاحة للاطفال . كإدراجها لكلمة ( رغبت ) عند قولها :
/...ولما رغبت في الحيرة جلست في عتبة غرفة ثانية / لايمكن ان نرغب في الحيرة ... لكن يمكن ان نرغب عنها بمعنى الرفض . كقول القرآن الكريم .. في سورة مريم الآية : 46
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ..
لكن الكاتبة وهي تخبرنا ان الطفلة رغبت في الحيرة ففي هذا إشارة منها إلى مايتميز به الأطفال عن البالغين . بحبهم الشغوف لكل مافيه استفزاز لمخيلاتهم وسؤالاتهم ومشاعرهم حد الارباك . كرغبة الطفل في سماع القصص المخيفة . فكلما ارعبته كلما ازداد تعلقا بها . وايضا عشق الاطفال للعب التي تتضمن الغازا تشق على الكبار فيبرع الصغار فيها . ويجدون حلاوة في الاشتباك الذهني بها . فليس من المعتاد بالنسبة لطفلة أن تشاهد شجرة تنمو خلال حائط .. هنا تكمن روعة استعمال الكاتبة للغة . فهي ليست بتلك البساطة التي تتعامل مع المفردات بتمثلاتها العادية البسيطة . بل ان لها رهان لغوي عنيد . يجاوز المألوف . فينسج علاقات جديدة بين الافعال والاسماء والحروف والنواسخ . من اجل تفجير معاني اكثر عمقا ودقة ..
فعلى العموم صيغ لغوية كهذه .. لايمكن ان تندرج النصوص التي اوردتها تحت مصنف جنس ادب الاطفال . والشاهد لغته وخطابه كما اوردنا .. لكنها حتما استنهظت فينا جانبا نتناساه كثيرا ونغفل عنه . هو جانبنا الطفولي الذي خزناه في جزء معتم من الذاكرة ..
تقنية العلب . هذه هي تقنية خاصة في تحفيز شهية القاريء للمتابعة .. وذلك انك ان كنت مستعجلا لن تفهم شيئا . من النص . وان كنت متحفزا وجادا . وصبورا . سوف تنتظر الى ان تفتح لك العلبة الصغيرة التي تختفي داخل العلبة الكبيرة .. فانت بهذا اشبه بطفل في حضرتها . وكيف لا ونحن نعلم عزة نفس الكاتبة وانها لم تكن يوما تستجدي قارئا . ولا تتوسل نصا لتنتقده انما . علاقتها بالأدب . هي علاقة محبة خالصة ...
. يطيب لي أيضا ان اقول ان كاتبتنا سميرة السباعي . صوت متفرد في عالم القصة القصيرة والسبب هو دقة اختيارها المسؤولة لطرائق الحكي . الاكثر تأثيرا وفاعلية . ومنفعة .
فكما بدأت قراءتي اول مرة اعود واقول .. ان مومياء الفرعون . لن تكتمل صورته في اذهاننا . ان لم يأخدنا الكاتب في جولة عامة داخل الهرم ..
كذلك بالنسبة للفلاح . فنحن لن نتفاعل مع شخصيته ان لم يتح لنا الكاتب فرصة الاطلاع على هوية ومظاهر القرية التي يسكنها ...
والممثل أيضا كمثل سقته سابقا من أجل تبسيط المفاهيم .. ينطبق عليه نفس الشيء ..
اما الجدة . ففي الغالب سنجد انفسنا ملزمين بالتحدث عن المكان والزمان اللذان عاشت خلالهما وذلك ما برعت فيه كاتبتنا سميرة .. وهي تكتب لنا نصا قصصيا جميلا وساحرا . عن الجدة مشيرة إليه أو معرفة به باسم " عتبة "
والعنوان " عتبة " دليل ناطق على ان الكاتبة واعية بتفاصيل ماذهبت اليه من خلف هذه السطور . وانها واعية أيضا بالنتائج التي سنستخلصها من فعل القراءة .. فكأنها تخبرنا من خلال هذا العنوان . انها لن تتحدث عن نفسها ولا عن الجدة . فان هي سافرت اليها من الزمن الحاضر الى الزمن الماضي . فلكي تضعنا مباشرة امام المكان الذي احتوى لحظاتهما تلك . بجلاله وبهائه وقيمته التاريخية والحضارية ..
3 - خاتمة :
الف شكر للكاتبة المبدعة .. واحب ان أضيف هنا في الخاتمة فأشير إلى تلك القفلة . التي ربما كتبتها لتلبي بعض حاجات في نفوس بعض القراء . عن كنز ما .. والتي اعتبرها من خلال وجهة نظري .. اضافة اساءت للنص قليلا . فهي قد تكون نزولا من طرف الأديبة عند رغبة القراء العاديين الباحثين عن الفرجة والتشويق ..
بينما كان ولايزال اعظم كنز .. هو ذلك المكان الذي يستغله الاوروبيون . والذي لن يزيدنا التحدث عنه الا حسرة . وهنا ربما يجوز للكاتبة ان تورد ذكر الكنز ان كان اعتباره رمزية مباشرة اضافتها لدق ناقوس الخطر . عتابا منها على الاجيال التي فرطت في ارثها العظيم .. في حين أنه حتى لو ثبت أن النص مقتطف من السيرة الذاتية للكاتبة . فان وجود ذلك الكنز او عدمه لن يغير من نظرتها المتأسية على فقدان البيت الذي يشكل وجهة ذاكرتها ومنتهى تماس وجدانها بنسبها وانتمائها الحقيقي ..
بينما يظل اعظم كنز هو هذا الذي نمتلكه الآن . ونتقاسمه جميعا . إنه نص - عتبة - الأكثر من رائع والذي . كان لي شرف كبير . ان قرأته وثرثرت حوله ..
تحياتي سميرة السباعي ..
4 - النص الاصلي :
عتبة
كانت وهي طفلة تستطيب لحظة إعلان والدتها عن زيارة الجدة بعد العصر...
لم يكن يستهويها لقاء الجدة،ولو أنها تنعم بمظهر امرأة لا كالنساء:في هيأتها و طريقة حديثها التي لا تخلو من صرامة في إلقاء الأوامر....
لكن الذي كان يخلد في دواخلها مرافق ذلك البيت العتيق الذي ضم بين فضاءاته عيشة أمها الحبيبة، الحنونة، دائمة الابتسام و الابتهاج...
بمجرد إلقاء التحية و السلام على كل من يتواجدون في البيت وهم جميعا كبار...ترفع عينيها لسقف الغرفة العجيب..كانت تتمدد على طوله ركائز خشبية عريضة مستوية الى جنب بعضها مع قليل من فراغ...كلما امعنت النظر ترقبت حركة ما...لأنها كانت توقن بعيش كائنات هناك...يطول انتظارها ويتعب عنقها الصغير دون جدوى...فتحاول اقناع نفسها فقط بجمال صنعه و فنية بنائه و تفرده عما كانت تعرفه سواء في بيتها او في مدرستها من أسقف اسمنتية...
تنقل مهارة الامعان الى باب الغرفة:خشبي مزخرف بألوان متناسقة ربما اكتسبت من النظر إليها ذوقها الفني الذي تجاذبته كثير من المغريات ولم تترك له مجالا للاكتمال...
تخرج من الغرفة بحركات طفولية تنم عن الرغبة في القفز و الاهتزاز لانها تشعر بالحرية و الانطلاق فهي ضيفة عزيزة تدخل البهجة على سكون البيت العتيق و وقاره...تطالعها لوحة فنية أخاذة حين تخفض بصرها الى أرضية المكان: زليج قديم بالأبيض و الأسود ذو نقوش دقيقة باللون الأصفر...كانت تكره لحظة فشل محاولة استدراج مستطيلاته للعب عليها، فهي لا تستقيم لها كما تحب دون رسم إطار اللعب سواء بالطبشورة أو بقطعة فحم...الأمر الذي كان محظورا عليها فعله بدعوى توسيخ المكان...
تعدل عن الفكرة وتواصل في اتجاه أدراج تقود الى الفوق...كان فوقا في المكان و القيمة...امتلكت بعد عدة زيارات قناعة عدم الوصول إليه...فالخطر قائم في حافته الحديدية القصيرة التي لا يمكنها أن تضمن لها حماية كافية من السقوط...هذا ما أوصتها به أمها....فلهت بالصعود والهبوط من الدرج الركني حتى انقطعت أنفاسها...ولما رغبت في الحيرة جلست في عتبة غرفة ثانية و تسمرت نظراتها...شيء غريب أن تجد شجرة وارفة الأغصان في صحن البيت جذعها يخرج من الحائط...
كبرت الطفلة
ماتت الجدة
بيع البيت العتيق لأجانب...في محاولتهم لاصلاحه على ذوقهم...يحكى أن البنائين أسقطوا الجدار الذي تنبث فيه الشجرة...وعند جذورها وجدوا الصندوق...
كان كنزا تحدثت عنه كل المدينة.
سميرة السباعي

ليست هناك تعليقات: