موسيقى

#المشهد الثقافي(العربي) في اﻷنترنت#
إن أردنا تقديم جرد للثقافة العربية في الشبكة العنكبوتية،من خلال إسهامات المثقف العربي في هذه الشبكة،نجد مادة غزيرة لتحقيق هذا الغرض،اﻷمر الذي يشجع على إنجاز هذا المشروع.
إن تقويم شيء ما أو تقديم حصيلة له مسألة تفترض وجود ما مكتمل ونهائي،وهو أمر ممكن إلى حد كبير مع اﻹنتاج المطبوع،بيد أنه شبه مستحيل مع اﻷنترنت للأسباب التالية:
1- طبيعة الشبكة ذاتها،والمتمثلة في سيولة هذه القارة وسرعة تبدل معطياتها لدرجة أن أي تقويم لا يمكن أن يتم إلا داخل الانترنت بشكل آني ولحظي بالنظر إلى سرعة تدفق المعلومات.فالشبكة العنكبوتية تشبه محيطا تتحرك مياهه على الدوام بما يجعل من المستحيل السباحة فيه مرتين.إنه عالم في تقلب مستمر،ثمة دائما مواقع تختفي وأخرى تظهر وأخرى تغير مكان إقامتها.
2- الأنترنت يتيح للفكر واﻹبداع أن يتجلى في تموجه وحركته الدائمتين،مما يقتضي مراجعة أدوات التحليل والنقد الموروث عن عصر الكتاب الورقي ذاتها؛إذا كان النشر المادي يقدم كل نص، إبداعيا كان أو فكريا،باعتباره منتهيا؛لا يمكن لمؤلفه أن يجري عليه أي شكل من أشكال التعديل (حذف ،زيادة،توسع، مراجعة، تصحيح، تنقيح...) إلا في شكل طبعة ثانية أو نشر جديد،فإن النشر اﻹلكتروني،بخلاف ذلك،يجعل من العمل نفسه ورشة قابلة للتعديل على الدوام،بحيث لا يوقف هذه التعديلات إلا رغبة المؤلف.
3- فكرة المبدع أو المثقف نفسها تتعرض لمراجعة قوية مع حادث الشبكة؛فثقافة الكتاب الورقي كرست صورة هذا التفاعل الاجتماعي والثقافي باعتباره شخصا يمتلك سلطة القول،تمنحه إياها مجموعة من الوسطاء: دور النشر بتراتبيتها الداخلية،والصحف بطواقم التحرير،المجلات بفرق تحريرها وهيآتها الاستشارية،المؤسسات العلمية،وأخيرا النقاد والقراء.
في حين مع اﻷنترنت صار بإمكان من شاء نشر ما شاء ويقدمه باعتباره ما شاء موصلا إياه رأسا إلى المتلقي،دون المرور من أي وسيط أو رقيب،وذلك على قدم المساواة مع أي أديب أو مثقف آخر اجتاز آليات التصفية التقليدية وكرس نفسه باعتباره آسما وازنا...
أكثر من ذلك،فالرقمية لم تجعل النشر في متناول الجميع فحسب،بل وكذلك أتاحت له التحقق بمنتهى السرعة وبكلفة زهيدة لا مجال للمقارنة بينها وبين الاعتمادات المادية التي يتطلبها النشر الورقي. TheZero Marginal Coste Society)Jeremy Rifki
فإرسال كتاب بكامله إلى أي ملقم (serveur ) في أي بقعة من بقاع العالم وجعله رهن إشارة المبحرين في كافة أرجاء المعمور عملية لا تتطلب أكثر من بضع ثوان إلى بضع دقائق (حسب سرعة الاتصال)، وبالتوفر على مساحة تخزينية بسعة 100ميغا بايت،مثلا،يمكن نشر حوالي 200 كتاب...
فاﻷنترنت،قبل كل شيء،هو أكبر شبكة من الحواسيب مرتبطة فيما بينها وتقرأ لغة واحدة. ثم إن هذه الشبكة ليست في ملك أي كان، كما لا تستطيع أي جهة لحد اﻵن أن تدعي امتلاكها أو تمتلك سلطة التحكم في تدفق المعلومات فيها(...)في اﻷنترنت لا وجود لوسط أو محيط:كل الحواسيب مراكز ومحيطات في الآن نفسه؛إذا توقفت ملقمات (serveurs )جهة جغرافية ما عن إمداد حواسيب العالم بالمعلومات،فإن ذلك لا يحول دون انقطاع اﻹمداد من وإلى جهات أخرى،إذ تستمر ملقمات الأنحاء اﻷخرى دائما في التزويد بالمعلومات وتأمين التواصل بين المستخدمين...ويبقى طبعا من المشروع التساؤل عن الرهانات السياسية والاقتصادية والثقافية الكامنةوراء إطلاقها وجعلها في متناول يا أيها الناس.
هذه النقطة التي يصطلح عليهاب"مصداقية المعلومة"أو "غياب المصفاة"على حد تعبير أمبرتو إ يكو(1)،تمثل نقطة سلبية وإيجابية في آن:سلبية نظرا للتلوث الذي تحدثه في الويب،وإيجابية لما تضمنه من مساواة وديموقراطية-إن جاز التعبير-بين منتجي الفكر والثقافة المعنيين بنشره في سائر أرجاء المعمور:
فالرقابة الذاتية على ما ينشر في اﻷنترنت،والذي لم يعد يقتصر على المكتوب،إذ تتيح تقنية الترقيم تحويل،ولأول مرة في تاريخ البشرية، الصورة والصوت والكتابة في صيغة واحدة،تلك الرقابة ليست متساوية لدى جميع الناس،وبالتالي بديهي ألا يكون شعرا كل ما يقدم نفسه باعتباره نظما مثلما بديهي ألا نجد سردا ضمن مجموع ما يقدم نفسه باعتباره محكيا،كما بديهي أن يحدث ألا نجد سوى هذيان ضمن ما يقدم نفسه باعتباره إنتاجا فكريا رصينا...
من جانب آخر،العديد من النصوص التي تقصى (أوأقصيت) ظلما من التداول الورقي،إما لمنع الرقيب أو لبيروقراطية جهاز النشر أو لسوء تقدير هيأة قراءة دار النشر،هذه المجلة أو تلك...،العديد من هذه اﻷعمال يجد فضاء رحبا للتداول، وبالتالي ثمة من ينجح في تكريس نفسه كاتبا انطلاقا من الشبكة، فتجد أعماله طريقها إلى للنشر الورقي،كما ثمة من يكون قد كرس نفسه كاتبا في عالم الورق ولا يجد له موطئ قدم في العالم الافتراضي.وأشهر مثال على ذلك الكاتب اﻷمريكي Stephen King, الذي أراد في يوليوز 2000،الاستئثار بالعائدات الطائلة لكتابته،بعيدا عن وساطة ناشره الورقي،فوضع روايته الجديدة The plant،على الخط،رهن إشارة القراء مقابل دفع أقساط شهرية، لكن عدد قرائه انهار بشكل متزايد بما جعله يتخلى عن المشروع في شهر دجنبر من السنة نفسها،ولم يكن ما كتبه قد تعدى ستة فصول من العمل (2).
4- في صلة مع النقطة اللاحقة،وكما نبه إليه"جورج لاندو" في سياق آخر يرتبط بدراسة النص التشعبي التخيلي،إن تناول مادة إلكترونية بالدراسة في منشور ورقي أمر لايخلو من مفارقة بالنظر إلى تباين العالمين: فالمنشورات الورقية أجساد ميتة تسجن النصوص في قوالب مادية،لاتحيل إلا على ما بداخلها. وإذا ما استدعت العودة إلى نصوص خارجية، فالتحقق من هذه الإحالات يقتضي من القارئ بذل مجهود في العودة إليها،وهو ما لا يتحقق دائما. بخلاف ذلك،تتيح المنشورات اﻹلكترنية في اﻷنترنت،عبر إمكانية إدراج الروابط التشعبية،الوصول إلى مجموعة نصوص إحالات الدراسة (المتوفرة في الويب)،من خلال مجرد النقر على الروابط التشعبية المفضية إلى متون المراجع.
يتبع...
(1 )Umberto Eco,auteur et autorité.
(2)Christian Vanderdorpe,pour une bibliothèque universelle.

ليست هناك تعليقات: