موسيقى

Mohamed Jlaidi
***
قصة :
-« ذاكرة زورق » ..
من أعلى الربوة ، لاح لي المشهد مغريا ! لم أستطع مقاومة إغرائه ! لذلك لم أرد على الغواية برفضها ، بل استجبت للبحيرة بالمشي إليها ..وأنا أتأمل العناصر المشكلة لجسدها المتراقص أمامي ، بتفاعل ضوئي مدهش ؛ أدركت ُ بأنها قد استيقظت للتو من نومتها، لتحضن الزرقة والخضرة وزوارق الصيد ، وتتهيأ لاحتضاني ! وحدي والطيور المهاجرة : أنا أقف على حافة الماء ، والطيور تقف على المساحات الرملية وسط الماء كالجزيرات ! طيور مكافحة ، لأنها مهاجرة ! ليست كسولة ، وليست اتكالية ، لذلك تأخذ حمامها الشمسي الصباحي ، قبل الشروع في البحث الجاد عن شرط استمرارها الوجودي !
كانت الزوارق الآمنة، بعضها مشدود بحبال ، كل حبل ينتهي في قعر الماء بفأس. وبعضها الآخر ، مشدود بالأوتاد على الشط .مسحت الزوارق القريبة مني بنظرة ، فابتسامة ! لأن كل زورق يحمل إسما ! والزوارق مثلنا ، لا تختار لنفسها أسماءها ! فالذي سمّى هو من يمتلك دواعي اختياره للمُسمّى !
استهوتني لعبة الأسماء ، فحضرتني فكرة تناقض مدلول الإسم مع حامله ! قلت لنفسي :
-كم من ( صالح ) يزرع الفساد في الأرض والزرع والضَّرْعِ والنَّاس !
-وكم من (لطيفة) هي كل الخشونة التي أنبتتها الأرض !
-وكم من (فريد) لا فرادة فيه !
-وكم من (وفاء) تركت الوفاء وتلحفتْ طباع الغدر !
-وكم من ( سعيد ) هو أتعس مخلوق في الوجود !
ومن الأسماء البشرية إلى أسماء الزوارق ! قرأت بعضها، وهي مرسومة بالطلاء :
-(الحاجة حورية ) !
-(يحيى) !
-(رضى) !
-(سعيد ع ) !
-(رحمة البهلولية ) !!!
الزورق في المرجة الزرقاء، وسيلة لمن اختار رزقه من البحر . وزوارق هذا المكان كطيور المكان ! تخرج نهارا في رحلة الصيد ، وتعود قبيل الغروب ، أو تغادر إلى اللجة قبيل الغروب ، لتعود عند الصبح. وبعضها يشتغل مع السياح . وذلك بحملهم في أرجاء وأدغال البحيرة ، للتعرف عن قرب على عناصر تشكيلها ، وأنواع طيورها المهاجرة.
قلت بالإحتمال :
-ربما يكون «الحنين»هو القاسم المشترك بين تسميات هذه الزوارق بتلك الأسماء ،من طرف من سمَّى! وقد يكون «الإقتداء» هو القاسم المشترك ! وقد يكون هذا ممزوجا بذاك ! ف« الإقتداء » لا يلغي ولا يبعد « الحنين » : فكم من المثل العليا ، نختارها لفقدها في واقع صيَّرها استثناء ، بعد أن كانت فيما مضى قاعدةً ثقافيةً مؤطرةً للسلوك والمسلك والعلاقات !
ولأختبر أفق توقعاتي الإفتراضية ، انتظرتُ أن يُشَغِّل أصحاب الزوارق محركات العمل ، على أن أختار الزورق الذي استفز إسمُه فضولي ، وأطلب جولة مع صاحبه . ولما انطلقت الطيور ، بعد حمَّامها الشمسي ، في البحث الجاد عن شرط استمرارها الوجودي ، انطلقت محركات الزوارق وعلا صوتها ، ليغمر فضاء المرجة الزرقاء !
-صباح الخير.
-صباح النور.
-أرغب في جولة إذا لم تكن عازما على التوجه للصيد.
-تفضل ، لن أتوجه للصيد .لأن البحر غاضب.
قالها ثم أضاف ضاحكا :
-والبحر لا يغضب إلا إذا تركْنا زرقته وتلحَّفْـنا السواد.
بعض الناس يشجعونك على البوح بتلقائية ، وبعضهم يحملونك على الدوران الكلامي ، واعتماد التمهيد والتمهيد للتمهيد ، قبل الوصول معهم إلى صلب الموضوع المطلوب ! وهذا الرجل من الطينة الأولى ، لحسن حظي ! لذلك توجهت إليه بالمباشر وبدون مواربة وبدون مقدمات تمهيدية ، ووضعته توا في صورة هلوساتي المرتبطة بلعبة الأسماء ، التي أثارت فضولي .
-لماذا سميت زورقك ب«رحمة البهلولية»؟!
علتْ ملامحَ وجهه علامات الإستفهام ، ثم أطفأ محرك الزورق ، وسأل:
-وهل تعرفها ؟!
أجبت:
-قرأت عنها تلك الجمل القليلة التي قيلت في حقها (!!!)
ثم أضفت مستعرضا عليه الجمل تلك،بصيغة استفهامية :
-أولست هي رحمة حموش بنت محمد بن الطالب . من منطقة البهاليل قرب مدينة صفرو. مقاتلة سرية تمكنت من القيام بأعمال بطولية في المرحلة الإستعمارية . كان منزلها مخبأ للمقاومين ، ومستودعا للأسلحة . اشتهرت باسم « رحمة البهلولية » في أوساط المقاومة وجيش التحرير ؟
قال:
-بلى، هي. والحمد لله أنني أدركتها،وعشت في حضنها طفولتي كاملة ،وبعضا من شبابي.وسمعت منها بطولاتها في دفاتر المقاومة .ولما غادرت ، سميت زورقي باسمها.ومتى رزقتُ بطفلة سأسميها باسمها،لأحافظ على استمرار حضورها بين أهلها ،على الأقل . ما دام تاريخ المقاومة النسائية في البلد ،قد طُمِس بالكامل ، عنوة
أو سهواً ، وكأن التاريخ ذَكَــرٌ فقط !
سألت :
-وما علاقتك بها ؟
أجاب:
- جدتي ، وجذري ، وقدوتي ، وفخري .
(…)
بعد ذلك ، التفت الرجل إلى محرك الزورق ، فشغله. وسرنا على متنه نمخر عباب البحيرة ، بحثا عن تفاصيلها ، التي سقطت ، عنوة أو سهواً ، من سجلات المحافظة العقارية العمومية !!!
محمد الجلايدي - القنيطرة - المغرب

ليست هناك تعليقات: