موسيقى

*** قدر عشق مغلوط ***
نص
_______________________________________
مع نهاية هذه السنة الجامعية بالضبط ، أحست الأستاذة ندى بفخر واعتزاز غير مسبوقين.... كانت تمشي و سط المدعويين لمناقشة أطروحة هذا اليوم بزهو وانتشاء... تنتظر الحضور الكامل لأعضاء لجنة مناقشة أطروحة نيل الدكتوراة ، التي أعدتها طالبة تحت إشرافها الكامل ، في موضوع :"نقائص القانون الدولي ،في صد جرائم الحرب /القضية الفلسطينية ، نموذجا ""...
المدرج غاص بحضور وازن : أساتذة ، باحثون ، صحفيون ، قضاة ومحامون ، طلبة ومثقفون... حضور استفزته ولاشك ، جِدّة الموضوع وجرأته .
ستحصل هذه الطالبة عل شهادتها العليا ، بميزة مشرف جداً ، مع توصية بالطبع والترجمة والتوزيع الدولي... وقبل انصراف جمع الحضور ، سيأخذ السيد عميد الكلية الكلمة ، لينوه بجهود الأستاذة ندى اسميرس ، في تأطير الطلبة الباحثين....
__هذه الأستاذة الشابة ، يقول العميد ، التي عادت من الديار الأمريكية محملة بأربع شواهد دكتوراة ، في جميع أصناف القانون، لم يمض على الشروع في اشتغالها بكليتنا سوى خمس سنوات... مدة تدريسية قصيرة ، ولكنها كانت كافية بالنسبة لها كي تثبت فاعليتها العلمية ، اذ أشرفت على سبع أطروحات مهمة ، وأطرت العديد من الورشات التأملية والفكرية ، كما أسهمت بشكل إيجابي في انفتاح كليتنا على محيطها الفكري والسياسي ،فضلا عن نجاحها في توأمة هذه الكلية بكليات في أمريكا اللاتينية ، وبلاد روسيا.... ولولا علاقتها الإنسانية بالقاضيين الهيني وقنديل ، لاحتفظت بها وزارة العدل الى الأبد ، مستشارة في قضايا التكوين المستمر الخاص بأطرها....
صيف هذا العام ، قررت ندى عدم السفر نحو أوروبا ، لأن والدها الحاج المهدي كان قد أخبرها بموعد افتتاح عيادة شقيقتها الدكتورة الجراحة انتصار... عيادة حرص الحاج على ان تكون متضمنة لجميع الاختصاصات ، وتعاقدت إدارة العيادة في هذا الشأن مع كبار الأطباء الأخصائيين ، في مبادرة لجعل العيادة قبلة لكل المتعاملين بشكل ناجح... بل إن الحاج في مبادرة مماثلة ، فوت الإشراف التام على منشأة انتاج قطع العيار لصغيرته فيروز ، العائدة هذه السنة من المانيا متوجة بشواهد عليا تخص التدبير الاداري والمالي والانتاجي للوحدات الصناعية...
ثلاث بنات ، انتهى الحاج المهدي اسميرس من تأهيلهن على مستوى عال، وحرص على إدماجهن بشكل منتج في سوق العمل ، ليتفرغ هو والحاجة مونية الشامي زوجته لتدبير ضيعتهما ضواحي المدينة.... ضيعة كأنها روضة من رياض الجنة...
هذا الصيف مر سريعا ، قالت ندى مخاطبة والدتها ، وهي تستعد لمغادرة الفيلا ، والذهاب الى عملها لأول ظهور لها بالكلية، مع انطلاق هذا العام الجامعي الجديد ...
استقبلها عميد الكلية بطلب منه ، وأشعرها رسمياً بالشراكة الجديدة التي أبرمتها الكلية مع جامعة بريطانية تخص توحيد محاور مواضيع الماستر والدكتوراة طيلة المواسم الجامعية الثلاث المقبلة. .
__من أجل ذلك ، أستاذة ، يقول العميد : أنت مكلفة بتدبير هذا الملف، بخصوص محور البحوث المتعلقة بالقانون الدولي... لذا أدعوك إلى مضاعفة الجهود ، سعياً وراء إنجاح هذه التجربة ، وظهور كليتنا بمظهر لائق.
رتبت الأستاذة ندى لاستقبال طلبة الماستر والدكتوراة ، مشترطة كما اتفق ، الاشتغال على محوري قانون العلاقات الدولية ، والقرارات والاتفاقيات الاممية ذات الصبغة الإلزامية... وهكذا مرت اجتماعاتها مع الطلبة المعنيين في ظروف جد ناجحة. وأحست أن هذه السنة ستكون مجدية أكثر من سابقاتها... انطباع لا ينبني على مؤشرات بعينها ولكنها هكذا شعرت على الأقل.. تذكرت جدتها ، امرأة عجوز ، فاسية ذات ملامح موريسكية... مازالت مدمنة على نفس التوجيهات ....ما أن تقع عينها عليها وتراها ، حتى تصيح في وجهها ، بلكنتها الفاسية ، المانعة من تكرارية الراء : "آالاستاذة... بقاي تالفة مع الكتب... ونساي الزواج...راك كبرت "...تذكرت الجدة ، فراودها إحساس مخلوط بالمرح والجد... قالت في دواخلها : وما قيمة المرأة بدون زوج ، بدون أبناء ، ومن غير أسرة.. حاولت طرد هذه الفكرة ، واقتحمتها فكرة اخرى في ذات السياق. .فكرة النساء الغربيات اللواتي يخترن الانجاب مع من يردن ، ويصرن أمهات عازبات عن محض اختيار....
انتهت من استعراض محطات هذا الشريط ، وهي توقف سيارتها أمام باب فيلا الأسرة الوالدية. ..فراودتها والحارس يفتح الباب ، فكرة إقامتها ، بسكن مستقل.... لكنها سرعان ما سحبت الفكرة من ذهنها بقوة ، لما تذكرت شدة ارتباط الوالد ببناته الثلاث .
أثار انتباهها حد الإعجاب ، وجود طالب مميز في سلك الماستر .طالب يجيد باقتدار عال ، ثلاث لغات من لغات العالم. وهو على درجة عالية من التكوين ، يقدم بانتظام عروضا على درجة كبيرة من الاهمية ...لا يُرى إلاّ في المكتبة ، أومنشغلا في قاعة الاعلاميات بالتهام الكتب الإلكترونية... شاب بطول ملحوظ ، قامة رياضية ، جعلت مفاتن جسده تبدو ظاهرة بشكل مثير ، ويزداد هو تفننا في إبرازها ، عندما يحرص بعناية بالغة على ارتداء اقمصة وسراويل ضيقة ، تسهل عملية استعراض عضلاته المفتولة.....
فبقدر ما كانت الأستاذة معجبة بقدراته العلمية والمعرفية الممتازة ، بقدر ما أصبحت منشغلة به هو ذاته ، ليس كطالب ، ولكن كقناعات فكرية ، كشخص وسيم ،بابتسامة دائمة ومغرية ، وكجسد يخلف الانطباع بأن هذه القوة، وكل هذا العنفوان، لن يكونا أبدا الى زوال ....
مع انقضاء الأسدس الأول من الموسم الجامعي ، كانت الأستاذة ندى ، قد أتقنت فن كسب قلبه. بعد أن أصبحت صورته لا تفارق مخيلتها.... بل إنها كتبت في عشقه شعرا ، هي التي عاشت تكره و تعادي الشعر وغناء الحب.
مع انقضاء العام الجامعي ، كانت ترغب في السفر معه.....
__أستاذة كم كنت أتمنى ذلك ، ولكنني مرتبط بسفر مع شقيقتي الى الديار الفرنسية ، سنحضر حفل زفاف ابنة عمي هناك...
_أرجوك في اللاحق من الأيام ، بلاش كلمة أستاذة.. احرص على مناداتي باسمي حتى وسط الكلية.... اتفقنا...... قالتها بنبرة انفعالية حادة...
__حاضر لاَلاَّ ندى.... مع السلامة... اقتربت منه وتعمدت توديعه عناقا ، وهي ترسم قبلات على وجهه ، عربون محبة وتملّك....
سينطلق العام الجامعي الجديد بعد شهر ونصف من التوقف ...مدة مرت ثقيلة كالأزل بالنسبة لندى.... وماأن وقعت عيناها على الطالب مروان ، حتى صاحت تناديه ، كما لو أنها طالبة ماتزال... جاء يهرول نحوها ، بادر هو هذه المرة الى عناقها بشكل حار ، ضمها إليه ، حتى أحست بان أضلعها تُحدث صوتاً من تحت يديه... أحست بها لحظة سعيدة في حياتها....
كان ذهول الطلبة ملحوظا ، بل إن ما غلب على ظن أكثرهم ، هو وجود قرابة عائلية تجمع بينهما. ..
بمرور الأسابيع ،سيتبين لعموم الطلبة والأساتذة ان الإثنين معاً ، يعيشان قصة حبّ قاسية.... فالأستاذة ندى أصبحت تصر على جعل مروان دائماً بجانبها على متن سيارتها.... وتصر على مجالسته بمقصف الطلبة بشكل مخجل.... كما أنها لاتتردد في المشي معه عناقا بممرات الكلية.. ..
__ "مسكينة جاتها المراهقة معطلة..... ، ومن الحب ماقتل ....، الهوى ومايدير.... " هكذا إذن كان طلبتها يتناولون قصة غرام أستاذتهم ، بكثير من السخرية والاستهزاء... بل ان أحدهم في اجتماع للطلبة بنفس الاستاذة ، تعمد تشغيل هاتفه النقال ، باغنية للحاج عبد الهادي بلخياط.... كان الصوت الرائع والاستثنائي لهذا الفنان ينطلق عذبا وقويا مرددا :" شوفو لهوى ما دار فِيُّ ،تبْرا كيّة يزيدني كيّة......... "
وبحس الأستاذة العارفة ، خاطبت صاحب الهاتف بهدوء تام : اعتزاله --أطال الله في عمره-- للغناء خسارة فنية كبرى ، أرجوك احترم اختيار الفنان ، هو اعتزل الغناء ، وانت احتراماً له أسكت هاتفك مشكوراً......... لم يسع الطالب إلا أن يفعل في كل احترام.....
الأسبوع الأول من شهر مارس ،لم يكن سهلا بالنسبة للأستاذة ندى ، ذلك ان صورها مع الطالب مروان ، على شاطئ البحر ، وفي مقاهي المدينة ، وكذا وهما يتعانقان بحديقة الكلية بشكل أعمى.... ألهبت صفحات الفايسبوك ، والمواقع الإعلامية الإلكترونية وراكمت تعليقات ساخرة وشامتة ، من غير أدنى حس إنساني ،أو احترام لحميميات وخصوصيات الناس ....
أمر عجل بتدخل الوزير المحافظ على الخط.... في الأثناء كان السيد العميد ، يجمع مجلس الأساتذة ، ومجلس الشعبة. وبخفة رمشة العين، استساغوا قرار عزلها من مهام التدريس . قرار أشّر عليه الوزير المسؤول في تلك الليلة ذاتها ....
حاولت الأستاذة توظيف النقابة ، بغاية معارضة القرار والطعن فيه ، لكن السيد النقيب أصر على عدم التدخل لفائدتها..... بل إانه خدش مشاعرها وهو يقول لها :
" أستاذة لقد دنّست الحرم الجامعي ، وأسأت لمهمة التدريس.... كأني بك طفلة....بالكاد تنمو "
إزاء هذه الأوضاع الجديدة ، ستتقدم بطلب الانضمام لهيئة المحامين ، ومن حسن حظها أن السيدة النقيبة امراة عاقلة ، دافعت على قبول طلب انضمامها للهيئة باستماتة كبيرة ، معتبرة الحب ليس فعلا مشينا ، وليس فعلا مخلا بالمرونة والمروءة... حاول السيد الوكيل العام ان يسوق قياسا اجتهاديا على ضوء قضية الاستاذ الهيني ، لكن السيدة النقيبة ، تصدّت له معتبرة قضية الأستاذ الهيني ، قضية رأي ، وحرية تعبير... في حين أن نازلة الحال مرتبطة بالمشاعر والحب والعشق والدواخل .....
سيفرح كثيراً الحاج المهدي ، لتغيير ابنته لمسارها المهني ، وسيسهر بنفسه على إعداد أفضل مكتب محاماة لابنته بالمدينة. مثلما أنه سينصبها محامية له ، تدافع عن كل مشاريعه الإنتاجية ، علاوة على تنصيبها محامية للمجلس الجماعي الذي يتولى رئاسته.... إذ تحدث الزملاء في سياق واجب الغيبة والنميمة ، عن المحامية التي ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب....
ما علينا ، لم يتبق للمحامية الجديدة إلا استكمال خطوات زواجها من مروان ، كانت قد هاتفته ، وحددا موعداً بمقهى لاكورنيش.. طالت لحظات جلوسهما بالمقهى ، كان مقدرا كثيراً لتضحيتها بمستقبلها الجامعي والعلمي في سبيله....
_ لالا ندى ، لي تشوفيه ، أنا لا أمانع ، ولكن لدي شرط...
_ اطلب ، أجابته....
_أرجوك ، لن آتي لطلب يدك رسميا ، حتى تزوري الدكتور عبدالودود ، عمي... لا بد أن تجالسيه أرجوك قبل أية خطوة ، هو في مرتبة الوالد......
في الصباح ، كانت ندى أول مترددة على عيادة الدكتورعبدالودود.... رجل في الستينات ، أخصائي في الطب النفسي ، منذ أزيد من ثلاثين سنة... مدمن خمر ، يعيش وحيدا في غرفة بفندق ميرامار الشهير.....
أهلا سيدتي.. هل من غرض ؟
_لا دكتور ، أنا المحامية ندى.
_مرحباً ، اعرف قصتك مع ابن أخي مروان..... ما المطلوب ؟
_نحن بصدد ترتيب أمور الخطبة والزواج ، وجئتك لهذه الغاية......
_لن أنفعك في شيئ سيدتي ، آسف جدا ، لأُخبرك بأن مروان لن يصلح لك زوجاً....أمر مذهل وغريب... المسكين ولد بدون خصيتين ، وهو طبعاًلا يتقاسم مع الرجال نفس الرغبة الجنسية ، ليس مؤهلا للإنجاب ولا للانتصاب... ولله في خلقه شؤون........ قهقه عاليا ، وهو يقول لها بهمس :
_أنا من يصبره ، أقول له خذ العبرة من عمك ، ستون سنة ولم أتزوج ، ماذا وقع ، هل توقف الكون ، هل ضاعت الدنيا..... قهقه عاليا مرة ثانية ، وهو يصيح الزواج فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الكل. ههههه.
خرجت من عنده ، وهي تلعنه ،أولاد الكلاب ،فصيلة واحدة ، لافائدة ترجى منكما.... رن هاتف مروان ، ترددت في الجواب ، لكنها كلمته .
_أهلا ، ماذا تريد او بالأحرى، ماذا تريدين ؟!
_اتصلتِ بعمي ؟
_قل عمّتي وليس عمّك....... قبّح الله سعيكما ، أجسام بغال ، وخِلقات نساء.
تمنّت لو أنها لم تولد على الإطلاق ، ولم تكن في هذا الوجود الشقي.... أحست بكثير ضيق وضجر...... ولكنها صبّرت نفسها ، وهي تصعد سيارتها الفخمة ، وتُشغّل أغنيتها الروسية المفضلة ، " من دونكم تستمر الحياة.. .أنا وحدي عيش ووجود.... أنا بهاء الثلج وضِياء القمر..... "
*****بقلمي عبد الحق توفيق البقالي *****

ليست هناك تعليقات: