موسيقى

Mohamed Jlaidi 
*******************
حكاية غرائبية :
.. تحكيها العجائز للصبيان ..
كان يا ما كان في قديم الزمان وسالف العهد والأوان، صرح شامخ البنيان، يحمل اسم رجل من رجالات علم اللغة وسحر الإبداع والبيان. تنصهر علاقات ناسه في بوتقات الحكمة ورجاحة الفكر ونظافة الوجدان. بوتقاتٌ ، كتلك التي يذيب فيها الصائغ أثمن المعادن ليزينها باللؤلؤ والمرجان !
(…)
كان ناس هذا المكان، يسوسون علاقاتهم بالعقل والحجاج والبرهان : يتبادلون الرأي في كل صغيرة وكبيرة ، وما أجمعوا عليه ، أنجزوه ، كي يعيشوا في سلمٍ وأمان . وهو ما جعلهم عبرة ذائعة الصيت ، يتناقلها لسانٌ عن لسان .
(…)
وفي عام من الأعوام ،أراد أن يمتحنهم الرحمان .فسلط عليهم جيشاً من البراغيث ، أتاهم من كل حَدَبٍ وصوب ليحتل ، رغما عنهم ، كل مرافق الصرح ،ويستولي على الأرض والضرع والمضاجع ،ويفسد كل ما له شان.
(…)
وبينما هم في انشغال بالحرب الضروس،ضد هذه البراغيث ،انبعث بينهم ،على حين غرة ،(هِـرٌّ) صورةً، وهو من الدواخل شيطان !
(…)
كانت الحرب مع جيش البرغوت في مرافق الصرح، وفي كل مكان. وكان التصدي لفيالقه، من مهمات العديد من الفارسات والفرسان . وكان هذا (الهر) صورةً وهو شيطان ، يطلب التودد والعناية والعرفان.ورغم انشغال ناس الصرح بالحرب ، أحاطوا( الهر) ذاك ، بالعطف والعناية والحنان . فتلك أخلاقهم مع الضعاف ، من خلق الله ، يستوي في ذلك كل ضعيف إنسان ، وكل عاجز من الحيوان . ولم يفطنوا بادئ الأمر بأنه ( هر )دواخله : حوافرُ حمارٍ قميء ،وذيلٌ قصيرٌ كذيلِ القردة ،وفمٌ ينفث الدخان.وفي أعلى رأسه قرنان !
(…)
طالت الحرب واشتدت ضراوتها مدة من الزمان . حاربتْ خلالها ببسالة كلُّ الفارسات ، وكذلك الفرسان .وفي كل جولة من الجولات في ساحة الوغى ، تتضاعف البراغيث عدداً ، ويتقوّى صمودها ضد المُبيد،فتزداد البراغيث عشقاً للدم الذي تمتصه بالخراطيم المعقوفة ، فترقص نشوانةً ، كما يفعل السكران !
(…)
قالت بهيجةُ لإيمان :
-أنظري ما سأفعل ، ولاحظي بإمعان.
أطلقتْ بهيجة بالمُــبيد على كمشة من البراغيث ،رشّةً، ثم أخرى،فصارت الكمشةُ كمشتان! قالت إيمان:
-توقفي يا بهيجةُ إن في الأمر (إن) ، فمُبيدُنا فَقَدَ قوته ، ولم يَعُد شرساً كما كان.
اجتمعت إلهام وسهام وسامقة ولمعة ،ببهيجة وأيمان.أخبرت الإثنتان بما لاحظتا في الميدان.فقررن إحالة النازلة على الخبيرة في علم الكمياء ، العالمة حنان. وبعد تحليل عميق مختبري دقيق ، تفكك الطلسم وصار واضحا وشاخصا للعيان :
قالت الخبيرة حنان:
-لقد اكتشفت البراغيث سر التركيبة الكيميائة للمبيد ، وصنعت مصلا مضادا يقيها فيبقيها حيّة،وفي حالة نشوة وميلان !
صاحت إلهام :
-وكيف انكشف السر وبان ؟!
قالت لمعة :
-مِن بيننا مَن خان.
أضافت سهام :
-لنطلق العيون تراقب المكان.
قالت سامقة :
-مستحيل أن يخون الصرح منّا أيًّا كان.
(…)
وعندما سمعت العالمة حنان ، كلام سامقة :(-مستحيل أن يخون الصرح منّا أيًّا كان). تفتقت في ذهنها فكرةٌ، كتفتق غصن البان ! تركت الجمع وراحت إلى مختبرها خلف الصوان.تخفتْ.والسمعَ أرهفتْ.إلى أن تناهى إلى أذنها حوار (الهر) وزعيم البراغيث . كانا يتحاوران، فانجلى الفاعل الجبان .إنه (الهر)صورةً وهو شيطان . جالس جلسة هر(يحكي انتفاخ صولة الأسد)، مع زعيم البراغيث ، يدبج الخطط ويبدع المكائد بحسبان!
(…)
أخبرت العالمة حنان أخواتها بما سمعت ، فمال جمعهن إلى الإقتناع ، بأن كاشف سر تركيبة المبيد الكيميائية ، هو هذا الذي تمسكن حتى تمكن ، ثم فرعن وصار قائدا للدس والتآمر،بدقة وإتقان ! أمسكْنه ، قيّدْنه ، فحصْـنه ،وعندما شرّحْنه ،اكتشفن بأنه كائن غرائبي من صنع الأمريكان ! فرفعْن الخبرإلى حكماء الصرح ، للنظر في الأمر ، قبل فوات الأوان !
(…)
أقام ناس الصرح في الساحة ل(الهر) صورةً وهو شيطان ،محاكمة كاملة الأركان .قال كبير القوم ، بعد آيات من القرآن ، تلاها أصغر الصبية بروعة مؤثرة وإتقان:
-أنا قاضي الصرح ، والبداية ،أن تحدد إسمك يافلان ؟
أجاب (الهر)/ الشيطان :
-(المُنبَتُّ ) إسمي ، وأنا (ماركة ) مسجلة ، من طرف الأمريكان.
سأل القاضي:
-ولماذا اختاروا أن تكون دواخلك حوافرُ حمارٍ قميء ،وذيلٌ قصيرٌ كذيلِ القردة ،وفمٌ ينفث الدخان.وفي أعلى رأسك قرنان ؟
أجاب (الهر)/الشيطان:
-لتضليلكم والتمويه عليكم بالبهتان.فأنتم في نظرهم ميالون للخرافة والشعر وبديع البيان.ولستم أهل عقل وعلم وبرهان.فقد تميلون إلى أني من (ألف ليلة وليلة ) :عفريت أو جن ، فتتركوا لي المكان.
ابتسم القاضي ثم قال بروية وإمعان :
-فلنضرب لهم بك آية لم تحصل في التاريخ فيما مضى من الزمان.
وتوجه إلى ناس الصرح بسؤال ،صاغه بحنكة وتبصر وإتقان :
-إذا أتاكم عدوان ليحارباكم وهما متحالفان ،فلمن الأولوية لكسب الرهان ؟
أجاب نيابة عن ناس الصرح طفل نبيه يدعى مروان:
-الأولوية للعدو المباشر الذي يستهدف الأرض والزرع والضرع والإنسان.أما المتحالف بالدس والتآمر فهو غصن من شجرة الحرب ، ولولا الشجرة لما كانت الأغصان.
لحظتها أصدر القاضي حكمه الذي كان :
-إصنعي مبيدا جديدا فتاكا أيتها العالمة حنان . وافتكوا بالبراغيث في كل شبر من الأرض حتى يكتمل التحرير ، وتعود للأنفس الطمأنينة والأمان.
ولما سألت العالمة حنان ، عن مصير (الهر)صورةً وهو شيطان ، قال القاضي بروعة في القول ، وحكمة في بعد النظر ، بما لا يخطر على الحسبان :
-علقوه على باب الصرح ، وجمدوا دمه في الشريان ، حتى يبدو حيّا ، وهو في خبر كان !
(…)
ولما انهزم العدوان ، صارت حكاية هذا الصرح عبرة ، يحكيها لسان للسان . تُدَرَّس في كليات الحرب ، وتحكيها الجدات والعجائز للصبيان.ومستهلها : كان يا ما كان ..

محمد الجلايدي - القنيطرة - المغرب

ليست هناك تعليقات: