مقامة "غريب"
خَرَجْتُ قَصْدَ الرّاحَةِ و الفُسْحَةِ.. فَساقَتْني الأَقدامُ و رافَقَتْني الأَحْلامُ إلى سَاحَةِ البَهاءِ.. فَصادَفْتُ مِنْ الأَصْدقاءِ أَحدُ الزُّملاءِ النُّجَباءِ.. كانَ مَوْسوعِياً يَعرِفُ الأُصولَ بالتَّدقيقِ و مَوضوعِيّاً يَصِفُ الفُروعَ بالتّحْقيقِ..فاسْتَلطَفْتُه و اسْتضَفْتُه بإِحْدى المَقاهي بَعيداً عَنِ الضَّجيجِ و المَلاهي..فَسَأَلتُهُ عَنْ حَالِهِ و تِرْحالِهِ..فَصَديقي الرّاقي بِالغَرْبِ هاجَ فَتَزوجَ بِكاتْرين رَغْبَةً في التَّوَدُّدِ وَ القُرْبِ.. فَنَجَبَتْ لَهُ پاتريك وَ فردريك وَ جاكلين.. فَتَطَبَّعَ بِأَطْباعِهِم و انْصاعَ إلى أوْضاعِهم.. فَتَنَكَّرَ لِأَصْلِهِ وَ فَصْلِهِ..فَعَجِبْتُ لأَمْرِهِ و لِغَرابَةِ تَقَلُّبِهِ..فقلت لهُ: بِرِفْقٍ وَ حَدَّثْتُهُ بِصِدْقٍ عَنْ زَمانِ طَلاقَةِ فَهْمِهِ وَ إِشْراقةِ عِلْمِهِ فَقد كُنتَ يا صَديقي بِالأمْس إذا تحَدّثْتَ.. صَغتْ إليك القلوبُ استماعاً و أَوْعَتْ استِمْتاعاً.. لِما لكلمتِك من حَلاوَة التّعبيرِ جمالاً و قُوّة التَّأثيرِ كمالاً.. فقد كُنْت يا صَديقي القَلمَ الصّادِقَ غايةً و كنت يا رَفيقي الفهمَ الحاذقَ أَهَمِّيةً.. تَنوبُ عَن ما يَجولُ في مَكْنونِنا من مُعاناةٍ و أسرارٍ و مأساةٍ و أخبارٍ.. فنَجدْ عندك الحَلّ الأمْثَلَ و الأَمَلَ الأفْضلَ.. لكنْ ماذا أَصابَك اليوْمَ تَغَيَّرَ الحالُ و المَقالُ.. فجَعلْتَ لكَ مِنْهاجاً مُبَهْرَجاً.. لا نَدْري ماهِيَّتَه و لا أهمِيّتَهُ.. أَوْ رُبَّما نَحن من لا يعْرِفْ ما الحَداثةَ و لا العَصْرَنةَ.. هلْ يا هَذا اسْتَورَدتَه مِنْ بِلادِ وَراء الشّمسِ حَيْثٌ العواطِفُ و العواصِف باردةٌ جامِدةٌ.. و نحن أَلِفْنا الدِّفئَ و الحَرارةَ و العِبْئَ و الشّرارَة في كُلِّ شَيْئٍ.. وَ كَيْفَ لا وَ قَدْ قيلَ انَّ الأَدَبَ ابْنُ بَيْئَته أصْلاً و فَصْلاً.. تَرعْرعَ في قلوبِنا زَرْعاً و سَقَيْناهُ من دِمائِنا نفْعاً.. تاللهِ لَيْسَت تُرْبَتُنا عَقيمةً بَثاثاً و ليْسَتْ جيناتُنا عَديمةً أَشْتاتاً فلازلَتْ لنا الأقلامُ و الأحْلامُ و الأفهامُ وَ الأيّامُ سَيَنقشِعُ الغمامُ وتُرْفَعُ الأعْلامُ فلنا مَوْروثُنا ولهُمْ عَوْلَمَتُهم أَيُّها الحَبيبُ الغَريبُ
"محمد الرجفي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق